السبت، 19 يونيو 2010

الـثـابـت الـوحـيـد

" أخذني حنين لهذا النص القديم، ربما منظر الدماء اليوم بعثه من مرقده، ربما.."

أكرهها تلك الباصات المتقابلة الكراسي ..
أ نتقابل هماً و غماً أم ألماً و حزنا ؟
أنفاسنا أتبعها السفر من وطن إلى وطن ..
هنا عند دوار مطار السيب الدولي المحاذي لمركز شرطة العذيبة أركب باص أجرة آه يا كم تأسر الأوطان ..
يسألني زميل الباص عن الساعة حسب التوقيت المحلي وبدا مغترباً فأطلب منه اختيار أي وجهة من الوجوه الأربعة لساعة الدوار يناسبه أكثر ..
أعزائي ..
إذا حدث أن قابلتموني يوماً بباص أُجرة متقابل الكراسي فليبتسم كل منكم قهره و لا تعطروني بخيباتكم!
لأكاد أبصم أن الهم ينتقل كالعدوى بيننا هنا!

ما صبرني على ركوب باص الأجرة سوى عشقي للمفاجئات ..
عدت أخيرا إليك يا وطني ..

رويداً أمشي في الحي باتجاه المنزل ساحباً ورائي حقيبة سفر أتعبها الترحال ..
كانت الشمس قد ودعت المكان وتبعتها بقايا خيوطها الحمراء ، لا شيء سوى أصوات بعض الحشرات تغني فتبعث فيَّ الذكريات ..
هنا تحت هذه الشجرة بكت أمي ذات يومٌ عليَّ خالتني ميتاً ! بعد أن رماني ابن جاري سعود بحجرٍ لأني رفضت إعارته دراجتي كنت طفلا عنيداً كأبي هكذا كانت تصفني أمي كلما أعادت عليَّ الحكاية!
فقدت الوعي عندها و سال دمي و دمع أمي ...
مازال حاجبي الأيسر مقطوعاً من أثر غـُرز الأطباء من ذلك اليوم ..
آه .. أماه .. انتظرتني كثيراً و ها أنا ذا أتيت ، وفيت بوعدي ، عدت حاملا شهادة تسكن الفرح في قلبك الجميل ، عدت حاملا أملاً بغدٍ أجمل ..
توقفت ..
أخذت ادخل الهواء إلى رئتي كما لم ادخله من قبل لكأني أرغب في كمية اكبر منه لتعينني على استقبل المنزل بعد هذا المنعطف ..
استدرت ..
دافئ كعادتك شامخ كعادتك مزدحم على غير العادة ؟!
عجباً...
سيارات كثيرة تحيط بالمنزل ، أهي احتفالية ما ؟!
هل ظهرت أسماء المقبولين في الجامعة و ظهر أسم شقيقي عبد العزيز معهم؟
أم ان عمرواً خطب أخيراً ؟
احدث نفسي و أنا امشي سريعا لعلي أحصل على ثواني إضافية من السعادة معهم ..
خيراً بإذن الله " اهمس لذاتي الباسمة "
أجر ورائي حقيبة سفر تعلق بين الحين و الآخر بحجرٍ من هنا و آخر من هناك ، لم يعد يهمني أمرها أن قطعت او سقط ما فيها فقد وصلت أخيرا إلى مبتغاي ، لن أسافر مرة أخرى بها فلا تعطليني يا حقيبتي الوفية ..
أمد يمناي إلى المقبض الذهبي لبابٍ اشتاق لمن يسكن خلفه شوق يرجف له قلبي ، أمدها ببطء لأستلذ بلحظات الشوق الأخيرة ..
يبتعد المقبض عني قبل أن تصل يدي إليه و يُفتح الباب !
لجزء من الثانية أُفكر .. أكانوا يعلمون بقدومي ؟
أ أخبرهم صديقي عليَّ بقدومي ؟
هل رأوني من النافذة ؟
أرفع عيناني عن المقبض و انظر إلى ما وراء الباب بشوق و لهفه رضيع للقاء أمه!
أرفع عيناني و انظر إلى ما حجبه الباب عني ..
.

.

.

أ أصدق ما لا يصدقه النظر ؟!
أ أكـَّذِبُ عيناني بما حملت ؟!

.

كيف كان لك يا قلب أن تحزر ؟
كيف كان لك يا عقل أن تفهم ما تحمله إليك عيني ؟!

نَعشٌ محملٌ على الأكتافِ

يلف بي الذهول كرتنا الأرضية و يعيدني إلى باب بيتي مشردٌ يتلحفهُ الذهول !!
نسيت كيف تنطق الكلمات .. أمااه تعالي و علمني مرة أخرى كيف تنطق الكلمات؟!
و علمني ما أقول في هذا الذهول!
أتراها ... أم أنه ... أيهم ... مَن يا حياه سلبتني في لحظة العودة الأخيرة ؟!
أتبدل الكلمات شيءً ؟!
وهل يقتل الصوت المشرد دهشة ً؟!
و تُحَل طسم النعش المُحَمَّل ؟!

أيا عقل أغثني بفكره للخلاص من الذهول الثـَمِـلِ بِالدهشات !!

حولت نظري المشلول يساراً عليَّ ألقى جواب سؤال نسيت كيف أنطقه و كيف أفكر فيه!

فإذا بنعش آخر تحمله الأيادي ليوضع على الأكتاف..

اقتربت كائنات ترتدي الأسود للملمه أشياء سقطت من حولي – عرفت بعد أيام أنها ملابسي التي سقطت إثر سقوط حقيبتي من يدي – لعمري أن سرعة الأرض ازدادت وفقدت الأرض توازنها ، أحاول أن أثبتها على الأقل تحت قدماي فقط ! فأعجز..

شقيقيَّ عمرو و عبد العزيز كانا صاحبي النعشين ، هذا ما فهمته من نواح نائحة بعد أن استعدت قدرتي على التفهم ..
"حادث سيارة " قالها رجل يربت على كتفي لم انتبه لوجوده ..
هدأت الأرض قليلا ً بعد أن نحروا فضولي المتيم بالمعرفة..

نسيت كيف أتمتم بكلمات العزاء أ أعزيهم على فقد شقيقيَّ أم اعزي نفسي؟ لمن أقدم العزاء ؟

لم يحضا العقل بفرصة لاستدعاء ذاكرته لعلها تذكره بما يقال في أرض الذهول!!

لم يكن في القلب أو في العقل شيء سوى الشوق أتيت محملاً به فكيف يرحلون؟ لمن اسقي شوقي ؟ لمن أطعم حبي ؟

أصريت أن ألقي نظرة و أقبل وجهيّّّ أشقائي بداخل النعشين قبل الدفن, أستنكر بعض الحضور طلبي ..

"هذا انتهاك لحرمة ميت " صاح أحدهم من بعيد واقفة آخرين..

فزاد إصراري ..
فلتسموه ما شئتم عناد أم غيره من الأسماء ، لم أشعر برغبة في أي شيء من قبل كرغبتي في تقبيل شقيقي و أنا العائد بالشوق إليهما..
طلب منهم الرجل الواقف بجانبي أن يدخلوا النعشين إلى الغرفة المجاورة و كانت غرفة مخصصة للضيوف ..
أتكون أول غرفة أطؤها في البيت عند العودة الأخيرة غرفة للضيوف!
لم ألحظ أن من ربت على كتفي كان خالي سوى بعد أن أدخلني إلى غرفة الضيوف مع النعشين !
ما ظننت يوما أن ينبض قلبي بعدكما أخوتي و قد كنت كالأب لكليكما !
تقدمت من النعش الأول و كان لعبد العزيز ,, كان الكفن بارداً ، أ تراه يشعر بالبرد وهو بداخله كما اشعر به ؟ شعرت بخالي يراقبني بأبوة عاجزة عن تقديم العون و ماذا يقدم لي الآن و قد فقدت شقيقي دفعه واحدة ؟ أ تراه يستطيع أن يقدم لي أخاً و هو التواق لطفلٍ يحمل اسمه ؟!

فتحت الكفن ..

نظرت الوجه المصفر الجميل ..
بسمه مسحت شفتاه الصغيرتان ..
ذقنه العريض به غرزتان و كدمة ..
فغرست على جبينه قبلتان وخده..
ودعوت ربي له بجنتين و رحمه ..

لم اشعر باقتراب خالي مني شعرت فقط بيد تربت على كتفي نبهتني إلى كلماته الأخيرة " نزيف بالدماغ "

أَغلِقتُ عيناني ..
وأُغلِقَ النعش ..

اتكأت على خالي أثناء نهوضي ، لم اعد أدرى أين ضيعت قواي ، أ يأخذ فتح نعش و تقبيل صاحبة كل هذا الجهد؟! ، هممت بالآخر فمنعني خالي و ضمني كمن يطلب اللجوء و السماح هزمتني و هزتني ضمته و همس " لا تفعل لأجلي "..
زادت رغبتي في تقبيل أخي الأصغر عمرو ..
أخرجني خالي من الغرفة و كنت كالطفل بين يديه وقال " انتهينا "
لم أكن أملك أن اعترض أو أن أقاوم ..
رأيت في عينَّي خالي ما لم أره من حزن من قبل كان وكأنه يحاول حمايتي من شيء ما أو حماية نفسه بمنعي ..
حمل الرجال النعشين و أنا أميز نعش أخي عمرو .. سرت معهم بقدمَّي فقط و قلبي معلق بنعش أخي و عقلي ثـَمِلٌ بأمي ..
سرنا سريعا لكأن الأرض تطلبهم فتُعَجِلُنا ، لكأننا نزفهم إلى أمل تحقق ..
راحوا يحفرون حفرتين و أنا انظر نعش عمرو لعلي اخترقه و اقبله !
انزلوا نعش عبد العزيز و أهالوا علية ثراً رطباً و بادراً .. أتراه يشعر بالبرد و هو هناك ؟!
طلب مني خالي بعينيه أن لا افتح نعش عمرو ..
رددت بعيني أيضا "آسف" ، نزلت حفرة حفروها لتكون قبرة و أنزلوا النعش ..
فتحته ، ردد البغض كلمات استغفار و استنكار لفعلي ، حاولت إزالة الكفن منعتني الظلمة من أن أرى أي تفاصيل لكن ولم تمنعني من أن افهم التفاصيل أعدته سريعاً ، و ارتميت على الكفن أضمه و ألملم فتات جسده ، و أخذت أقبل بألم موضعاً أخاله رأسه!

أغرق يا دمع قبر أخي ودفئ فتات جسده
لا تحرقه بدفئك فالدف أحرقه و قتله ..

"أفــاق"..

وجدت نفسي ممداً على فخذ خالي وهو يمسح على شعري و بينما يغسل أحدهم وجهي بماء فاتر و همسات تحمد الله من حولي ، سندني خالي و آخر معه ، حتى وصلت للمنزل شكرت الآخر لم اعد اذكر أي وجهه كان أو أي اسم يحمل ، لا ادري إن كنت شكرته بصوت وصل إليه أم لا فقد نسيت كيف تخرج الأصوات من الحناجر..

سنده الحائط الباكي علينا حتى وصلت إلى غرفة أمي ..
طرقت الباب مرةً وفتحته خشيت أن يُفتحَ قبل أن افتحه..
سُخف .. أ أصبحت أخشى انفتاح الأبواب ؟!
أ هكذا يزرع الخوف في القلوب؟!
أ هكذا ينبت الخوف في حياتنا ؟!

إيمان فضل 2005م
مصدر الصورة

هناك تعليقان (2):

  1. اليوم فقط وجدت المدونة .. وسأكون متابعا لها ..

    مودتي ..

    ردحذف
  2. أهلا بك معاوية في كل وقت..

    ردحذف