(1)
بخرتني أمي ببخور رخيص اشتريته من طفل كان نائماً عند محطة الوقود، أخذت أمي ترتل المعوذات وأدعية عديدة قبل أن ألفتها بأني سأتأخر على التاكسي الذي سيوصلني للمقابلة “الله ينصرك، الله ويوفقك، الله يرزقك الوظيفة اللي ترفع الرأس..”
نعم الوظيفة اللي ترفع الرأس، خرجت من البلد مع آذان الفجر، صلينا مع سائق االتآكسي وإنثنين بمسجد مهجور في الطريق، دعوات أمي كانت مهمة لي “الوظيفة اللي تفرع الرأس” هذا ما أبحث عنه، راجعت أوراقي ومؤهلاتي مع خيوط الشمس الأولى..
بكلوريوس هندسة إلكترونيات بدرجة امتياز، تدريب 6 أشهر في شركة “و”، ومجموعة شهادات تقدير من الكلية وشركة “و” التي تدربت فيها قبل أن أتركها منذ ثلاثة أشهر تقريباً!
وصلت لشركة “و.ن” مبكرا ،ًانتظرت في الاستقبال إلى أن صاح بي أحدهم “مدير الموارد البشرية ينتظرك..”
دخلت وأنا أشعر بصدى صوت أمي يرافقني ..
(2)
تدربت في شركة “و” لمدة 6 أشهر، وعملت بالمثل القائل “قد يوظفوك بعد التدريب لا تتعجل”، هم لم يكلفوا أنفسهم بدفع مبلغ 10 ريال التي كنت أستلفها من ابن جارنا لإيجار الشقة التي أتشاركها مع وافد! 10 ريال في 6 أشهر تساوي 60 ريال دين على رقبتي، لم أخبر بها أهلي، ناهيكم عن المصايف الأخرى للتاكسي والطعام وغيره! ولن أتذمر وأقول أني كنت أعمل للساعة السابعة ونصف مساءاً كل ليلة وأنجز ما لا ينجزه أصغر موظف لديهم، حسناً ستقولون بي حماس الباحثين عن عمل، وستقولون بي حماس الخرجين لكن شهادات التقدير تحكي ما لا أحكيه عن حالي!
توقفت عن التدريب حين سألت موظفاً في الموارد البشرية عن موعد توظيفي فأخبرني بأني لست من المرشحين للتوظيف لأن مدير القسم ينتظر تخرج ابن أخته الشهر القادم والوظيفة محجوزة له!
(3)
تفتت أحلامي كقطعة بسكويت بيد طفل! لم تسود الدنيا في وجهي فقط كما يقول البعض لكن حتى رفيق الغرفة كان باكياً شاكياً بلغة التي لم أفهم نصفها، حاولت أن أعرف منه ما حدث معه وبصعوبة فهمت أن أمه في المستشفى وأنه يريد العودة لبلده، ولأنه “هارب” فعملية عودته صعبة حالياً، جلست معه لأول مرة منذ 6 أشهر يشكي فأسمعه أشكو فيسمعني..
لم يمض يومان حتى حللت مشكلة الرفيق وحزم ماله ليعود لبلاده، وما كان منه وهو يودعني سوى أن يترك لي عدة العمل الخاصة به وهو يقول.. “هذا مشان أنت، أنت نفر واجد زين، روح شركة وسوي شغل سالري واجد زين” ومد لي بطاقة بها اسم مدير الموارد البشرية في شركة “و.ن”..
لم تكن عدة العمل التي تركها لي رفيق سوى “دلو وخرفة بالية ومساحة زجاج”، ظننته أن يعمل على غسل نوفد الشركة، إلا أن اتصالي في الصباح بمكتب مدير الموارد البشرية أكد لي أن الرفيق يغسل سيارات موظفي الشركة! وأكد لي منسق المدير إن الشركة ستكون سعيدة بعملي مكانه بشرط المحافظة على السعر 5 ريالات لكل سيارة في الشهر بواقع 150 سيارة، إضافة إلى ريال لمن يطلب مني تنظيف سيارته من الزوار وسأحصل على وجبة مجانية من الكفتيريا يتكفل العامل هناك بإحضارها لي..
“سأفكر ..” وأغلقت السماعة..
(4)
خمس ريالات لمائة وخمسين سيارة توفر لي حوالي 750 ريال كل شهر! فلِـمَ لا أوافق!
حرصت على تلطيخ وجهي بتراب ونفش شعري كي لا يَتعَّرف علي أحد، أخذت الماء من مسجد مجاور وبدأت العمل، كنت أغسل كل السيارة مرتين كل أسبوع، كان العمل شاقاً في البداية إلى أن اعتدت عليه، هناك أكثر من 150 سيارة لكن البعض يرفض أن أقوم بغسل سيارته ويطلب مني غسلها في أوقات متفرقة من الشهر، أصحبت أغسل ما يقارب 3 سيارات لزوار كل يوم أي ما يقارب 60 ريالاً إضافياً كل شهر..
راتب 800 ريال كل شهر هو أكثر مما حلمت به، لكن أمي لم تكن بذات سعادتي حين شرحت لها “طبيعة عملي” كمهندس غسيل سيارات..
إلا أني وجدتها فرصة للتقرب من مدير الموارد البشرية، الذي كنت أحرص على غسل سياراته يومياً، وكنت أبالغ في غسلها مرتين في الأيام التي أسأله فيها عن صحته والعمل والعلوم.. من هذه العلوم شكوت له بحثي عن عمل لعامين ونصف فوعدني خيراً بعد أن سلمته في اليوم التالي أوراقي … ووصلني اتصال من منسقه لمقابلة شخصية للعمل في الشركة..
(6)
-السلام عليكم..
-وعليكم السلام، هذا عقد العمل أنا خلاص وقعته بطلع الآن خلي سالم يكمل معك الإجراءات..
كان سالم الموظف المهندم يرتب بعض الأوراق على مكتب مديره، ابتسم حين رأى الدهشة تقطر من وجهي، فقد جئت لمقابلة ولم أتوقع أن أجد عقد العمل جاهزاً!
-مبارك عليك الوظيفة أخوي، أكيد واسطتك قوية ما شاء الله..
-الله يبارك فيك، توقعت أني داخل مقابلة لكن الحمد لله..
-الحمد لله، الآن عليك تشوف العقد وتوقع عليه قبل ما تستلم الوظيفة اليوم..
قلبت الأوراق بين يدي، تعليمات ومعلومات حول الشركة وحقوق الموظف والشركة وكلام لا يهمني الآن الأهم هو “كـم؟”، ترددت قبل أن أسأل سالم الذي تحول لترتيب بعض الملفات في مكتبة المدير..
-عفواً أخوي وين أحصل الراتب؟
ضحك وقال …
-الراتب آخر الشهر في البنك
يظن هذا السالم أن روح الدعابة مرتفعة لديه، لم أستطع مجاراته والضحك معه فقام من مكانه وفتح لي الصفحة الأخيرة وأشار إلى رقم كتب بخط أحمر.. 350 ريال!
___________________
بقلم: إيمان فضل
نشرت في صحيفة سبلة عُمان الإلكترونية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق