“كيف أكتب كلماتٍ كالموسيقى، كأصوات العصافير، أو حتى كنقيق الضفادع؟” *
هكذا تبدأ أزهار أحمد روايتها “العصفور الأول” الصادرة عن دار الجمل بألمانيا، وهي الرواية التي غيرت نظرتي للروايات العمانية، و يمكنني القول بأنها أفضل رواية عُمانية قرأتها إلى الآن، فالحد الذي تملكتني به الرواية لم يصادفني في رواية عمانية سبقتها! تقدم الكاتبة فكرة فريدة من نوعها قلما يصادفك كتاب يحرضك ويحدثك على أن “لا تتجاهل الصوت الذي ينز بداخلك”*!
دعوني أسر لكم بسر صغير، لطالما أحببت العصافير وتركت لها فتات الخبز والحبوب بنافذة المجلس ثم جلست أراقبها، كان العصفور الأول الذي أمسكه بين يدي يرتعش حتى أطلقته! ذكرني عصفور/رواية أزهار أحمد بعصفوري الأول، قلقي حين أمسكت أول عصفور بين يدي في طفولتي كان كقلق “مقرن” وهو يحاول الإمساك بعصفوره “الرواية الأولى”، أجادت الكاتبة نقل هذا القلق الذي يسكن الروح، فهو حينا يملؤها حد الغرق، وحيناً بعدها بفلسفات لا يمكن للكاتب أن يتجاهلها فتجده يصرح قائلاً .. “أشعر برغبة في الصراخ وكأنني لم أعش حياتي من قبل، كأنني شخص آخر، أفكاري مضطربة متضاربة. لِمَ يجب أن أكتب، هل لمجرد أنني أنزف طاقة لا أعرفها، يكفي سبباً لامتهان الكتابة؟ هل الكتابة امتهان؟ وهل يستحق البشر فعلاً أن أنزف لأجلهم، وأخاطر بنفسي، ومن ثم يرمونني بالحجارة؟ مَن سيقرأ لي أنا الناهض فجأة من لا شيء؟”*
تأخذنا أزهار في رحلة الكاتب الذي يريد أن يكتب الموسيقى فيبحث عن الألم الحقيقي للكتابة، إذ يقرر مقرن أن يعيش الألم ليكتب النور لهذا العالم-بتحريض من صديقه الذي يتحدث في فصل الموسيقى-، وبعد صراع داخلي وفكري يقرر زيارة العالم ويبدأ رحلة في الهند، فترافقه المرشدة السياحية أنيتا في رحلة يطلب فيها الغرق وينشد فيها الحزن والفرح معاً، ليجد الفقر في أبشع صورة بـ فيروز أباد مدينة الزجاج المنسية ومدينة الطفولة المفقودة، “كان الجوع يتدلى من عيون الأطفال ومن ابتساماتهم الجافة، كانوا أضعف من أن يلعبوا أو يقفزوا، وكلما مررت بإنسان هُيئَ لي أنه ظلٌّ قابضٌ على روحه”.
أنيتا تحمل مقرن لما هو أبعد من جولة سياحية فتسمعه يقول بعد أيام بداخله عنها “إنها امرأة مثالية تماماً للحب والكتابة”، وتصبح أسنانها البيضاء غراماً ينسيه أوجاع العالم ويدخله في وجع الحب، فكيف لكاتب أن يكتب دون أن يحب؟ تعطي أزهار لأنيتا القلم لتكتب هي أيضاً وتحكي لنا قصتها، قصة تصدم القارئ وتدهشه ؛ فالهند بلاد العجائب تحمل بجوفها ملايين القصص.
رغم كل ما تحمله الرواية من وجع الإنسانية في نصفها الأول إلا أن فكرة “القتل لمجرد الرغبة في القتل” تستحوذ على مقرن، فكيف يتخلص مقرن من هذه الفكرة؟ وكيف تتعامل شخصية مبدعة تعيش اللحظة بكل جنونها وتعلقها مع فكرة القتل؟ وإلى أين يصل هذا الكاتب الشاب الذي راح يبحث في 175 صفحة عن النور الذي سيضيء العالم؟ لم تجب أزهار عن هذه التساؤلات فقط بل قدمت للكاتبة رحلة مثيرة للكتابة بكل ما في الإبداع من وجع ولذة، بكاء وحب، دم ودموع.
المؤسف أنّ الرواية يمكن تغييرها بسهولة لتصبح رواية من بلد آخر، أعني أن الملامح العُمانية لشخصية الفرد والمكان لم تكن محفوره بذاك العمق، فالجامعة يمكنها أن تكون جامعة في الكويت أو سوريا، والعاصمة قد تكون الرياض أو بيروت، تمنيت لو أشعر بحميمية وأهمية المكان/العُماني، بعكس ما قدمته الكاتبة من صور للهند تجعلك تدرك يقينا أنها الهند لا بلد سواها! ليس هذا انتقاصاً من قيمة الرواية –في رأيي كقارئ- لكنها أمنيات لكتبات قادمة بإذن الله
رواية الأرامل رواية يتنبأ فيها الكاتب بما سيحدث في الأيام التالية من حياته، رواية كتبها صاحبها لابنه كي لا يحزن ويواجه الحياة رغم بؤسها بقوة، نشرت الرواية باسم مستعار وهو “ايريل دورفمان”؛، لتحكي لنا عن اختفاء آلاف الرجال وبعض النساء لأسباب سياسية، يمكنك أن تتخيلها تشيلي أو أي بلد آخر من بلدان من أمريكيا الجنوبية، لا يهم أين تحدث تحديداً فالرواية تحكي وجع البشر بسبب البشر، ,لا تكمن الحبكة في اختفاء هؤلاء الرجال واختطافهم من قبل البوليس السري وحسب بل في نساء هؤلاء المفقودين! لا أحد يستطيع الجزم ما إذا كان المفقودين أحياء أم أموات! لا أحد يستطيع أن يجزم بأي شيء هناك!
تحكي الرواية عن قرية خَرَجَ رجالها –على فترات متباعدة- ولم يعودوا، ولم يبقى فيها إلا قوات الأمن، لم يخرج الجميع طوعاً بل إجبار البعض على مصاحبة أو مرافقة شخصيات مجهولة أرغمتهم على ذلك، وكان النهر الذي يصل للقرية من الجبال يحمل بين فترة وأخرى جثة رجل ما! تشوهت ملامحه فيصبح التعرف علية صعباً أو لنقل مستحيلاً، تلك التشوهات بالجثث كانت نتيجة التعذيب “ربما” قبل القتل، أو”ربما” بسبب البقاء لأسابيع في النهر، أو “ربما” من الجوع، أو “ربما” بسبب الاصطدام بصخور النهر إذا فرضنا بأن الجثة سقطت من أعالي الجبال!
أصبحت القرية خالية إلا من النساء اللاآتي ينتظرن عودة من لا يعود! وقد بلغ بهن اليأس إلى إدعاء تعرفهن على الجثث، لتجد إحداهن تقرر أنها جثة زوجها الذي اختفي منذ عام مضى، وتصر الأخرى بأنه والدها وتعد لإقامة طقوس العزاء والدفن له، رغم أن وجه الجثة لم يعد سوى مادة كانت ذات يوم وجهاً وأضحت “متفسخة متلاشية، بما تعرضت له من سحق وارتطام وتنقيع”*.
توقع هذه التصرفات العجيبة رجال الأمن في حيرة، الصمت المخيم على الأرامل مخيف، وحين تقرر إحداهن أن الجثة تخص زوجها أو ابنها فلا مجال لثنيها عن أخذ الجثة وإقامة مراسم العزاء والدفن له، ضاربة بعرض الحائط كل التدابير الأمنية، فرغم صعوبة اكتشاف أسباب وفاة الجثث لتعدد الآثار التي تحتويها، إلا أن فالأسباب لم تعد مهمة لزوجة قررت أن زوجها قد مات وهذه الجثة الممزقة ستكون جثته!
تصور الرواية مقداراً من الألم واليأس يثقل نفس القاريء، كيف لإنسان أن يصل إلى درجة من اليأس يقرر فيها وفاة أعز الناس إليه لأنه مَّل بداخله من انتظاره؟ كيف له أن يقرر بأن هذه الجثة المفقودة الملامح ستكون جثة عزيز عليه؟ أي قمع عانته تلك الشعوب لتجبر أصحابها على إجهاض الأمل!؟ لم يعد أحد! لم يسبق أن عاد أحدهم فأي أمل قد تحلم به أرملة! تتصاعد حدة الموقف حين يرفض رجال الأمن تسليم الجثث للأرامل لعدم وجود دليل جازم بهوية صاحبها!
“الأرامل” تصور الحرمان الذي لم يكن من العائلة والبيت والحياة بل أمتد ليطال قبور هؤلاء المفقودين الذين لا يعرف أين أو كيف ماتوا!؟
كاتب الرواية فُقِدَ أيضاً في ظروف غامضة وبقت مسودة الرواية للابن الذي ولد بعد اختفاء والده ونشرها باسم مستعار! الرواية التي صدرت ترجمتها عن دار نينوي تقع في 154 صفحة من القطع الحجم المتوسط، وقد كتبها صاحبها بين عامين 1941 و1942 وكأنه يتنبأ باختفاءه هو الآخر.