"كانت المدينة الأثرية تختفي بعد الغروب، تُغلَق أبوابها علي من بقي بداخلها من بني البشر، فتختفي الطيور التي تسكن البرك المائية ولا يعود لها أثر، كلما توغل ظلام الليل بتلك المدنية ازداد المكان وحشة، فلا يعود للصوت معنى ولا للحظات فواصل، عندما تقارب الساعة الثانية والنصف فجراً ينطق كل حجر في المدنية بصدى أصوات المعذبين والمحبوسين فيها، صدى بكاء الأطفال لا يتوقف، يخترق الآذان، كل شيء شبه ميت وشبه حي في هذه المدينة، مازالت رائحة البخور منبعثة من جدرانها القديمة تعطر المكان وتروي قصة للظلام كل ليلة بعد الغروب"
لكل أرض قصة وحكاية وكل حكاية رواية تُعبِّد الطريق لشهرة القاص والمقصوص عنه، فما كانت قصص كبار الأُدباء لتمر دون أن تترك أثراً في نفوس قرائها وإن آمن الأغلب بأنها قصص تحتمل نسبة من الخيال كما قد تحمل نسبة من الواقعية فكل خيال مبني على واقع جزئي.
القصص تمثل أحد وسائل الجذب الغير مستغله –للأسف- في الجذب السياحي، فما قد تتركه القصص من أثر نفسي ورغبة عميقة في زيارة المكان ما قد تعجز عن بلوغه وسائل الإعلان الأخرى، فلا يمكننا أن نتجاهل ما اكتسبته الأهرامات من شهره على شهرتها برواج حكايات لعنة الفراعنة، تلك اللعنة التي تصيب من يدخل للأماكن السرية في الهرم –كما تقول إحدى القصص- أو تلك اللعنة التي أصابت من حاول سرقة شيء من الهرم –على حد تعبير قصة أخرى!- مدى واقعيه هذه الأفكار أو امتزاجها بخيال الكاتب يدفع السائح للبحث عن الحقيقة بزيارة، دعوني اسميها هنا سياحة القصص ولتكن سياحة البحث عن حقيقة مزجت بروعة الأدب وخيال خصب، فكان الأدب ومازال المادة الأولى لكثير من روائع الفن السابع الذي يُعد أداة الجذب الأكثر فعالية حالياً في السياحة، لم يكن فيلم المومياء بجزئية الأول والثاني مجرد فيلم عابر، فقد قام –بقصد أو بغير قصد- بتعميق تلك الرغبة التي يحملها الآلاف لزيارة الأهرام وقد ولدت لدي رغبة أقوى من السباقة في زيارة مصر!
قصة رادوبيس لـنجيب محفوظ -التي قرأتها مخلصة في كتاب للأطفال- كانت الباعث الأول لرغبتي بزيارة مصر، إلا أن رادوبيس لم تكن الوحيدة إنما أتبعتها روايات أخرى على مدى سنوات، وقد شاهدت –ويشاركني كثر- عدداً ليس بقليل من أفلام –حتى أفلام الكرتون- تطرقت للعنة الفراعنة أو قصص مصر القديمة وتاريخ مصر كان لها عظيم الأثر دفع أحلامي السياحية اتجاه مصر!
رواية "واحة الغروب" لبهاء الطاهر أحيت بي تلك الرغبة لزيارة واحة "سيوة" و بقايا معبد " أم عبيدة " وكل تلك الآثار التي تحدثت عنها الرواية، مما أنبت بي فضولا يسأل "هل يا ترى سنجد معبداً إذا غصنا في ماء البحيرة؟" يظهر أن قائمة الأماكن التي أود زيارتها في مصر منبعثة من القراءات التي مرت علي، فالأهرام ووادي الملوك وواحة سيوة كلها قرأت عنها وشاهدت البعض -كغيري- على شاشات الفن السابع!
إذا أحكمت حقيبتي قاصدة رومانيا فبلا شك سيكون قصر "الكونت فلاد تيبيس" في إمارة "ولاتشى" أول ما أفكر في زيارته، "فلاد تيبيس" الذي عُرِفَ بالدراكولا لم يكن يعرف بأنه سيكون سبباً في حراك سياحي في إمارته، إذ استغلت حكومة رومانيا قصة دراكولا في السياحة –وإن كنا نعرف أنها كِسرة من حقيقة ورغيف من خيال- إلا أن رومانيا كانت فطنه في استغلال رواية الروائي الايرلندي "برام ستوكر" في السياحة، وقد كانت الرواية بعنوان "الذى لا يموت" وقد كتبت عام 1897 قبل أن يتم تغير الاسم إلى دراكولا، ابن الشيطان أو دراكولا هي رواية ذات نسخة واحده فقط مكتوبة بخط يد "ستوكر"، وتم استغلال فكرة "برام ستوكر" في عدد من الأفلام والمسلسلات التي أعطت رومانيا حركة سياحية ومميزة بالرعب!
عندما أتحدث عن ما أحببت تسميته بـ"سياحية القصص" فإنني أنظر متعجبة إلى غياب هذه الفكرة عن السلطنة، إذ تحتضن عُمان قصصاً منحوتةً في ذاكرة المكان؛ إلا أنها وللأسف لم تستغل بشكل كافٍ في الأدب وفي السياحة، لكل باب في الحصون قصة ورواية، رممنا الحصون والقلاع ولم نرمم القصص التي تدعم السياحة وتثري الزائر لهذه الأماكن.
من المناطق الجميلة التي تملكني الدهشة من قصتها كانت منطقة ميناء ريسوت بظفار، إذ تروي قصص الأجداد قصة معركة قامت بين البرتغاليين وبين سكان المنطقة وكانوا من قبائل القرى ، المنطقة الآن لا تحمل إشارات و دلالات واضحة للمعركة التي دارت هناك إلا أن سكانها يعرفون تماماً ما حدث، ويعرفون كيف تغلب أجدادهم على جيش البرتغال بذكاء، حيث استخدم البرتغال بنادق البارود في معارك صغيرة كانت تودي بحياة عدد كبير من السكان الذين استخدموا أسلحة تقليدية، وبعد تفكرهم في طبيعة البنادق قرروا خوض معركة حاسمة مع البرتغال في يوم ماطر لتعطيل بنادق البارود، كان السكان قد منعوا الماء عن أبقارهم وجعلوا بئر الماء خلف صفوف البرتغال، تقدمت الأبقار جيش السكان وأطلقوها ساعة المعركة، فاندفعت الأبقار تدهس الجيش البرتغالي لتصل للبئر الماء خلفهم، وتعطلت بنادق البرتغال لم يقع الكثير من القتلى في صفوف السكان، وهكذا هزم جيش القائد البرتغالي فرناندس ومازالت –كما يقول جدي- مقابر البرتغاليين معروفة إلى الآن في تلك المنطقة.
هذه واحدة من القصص التي تحكي حكاية المكان، حكاية تروي شطراً من التاريخ الذي يقدم للسياحية ما لم تقدمة الإعلانات والمخطوطات، ريسوت أصبحت الآن لا تُعرف إلا بالميناء الذي أقيم به، رغم أن التاريخ قلدها قلادة حين انحنت لتقول له سيكون لي شطراً منك فمن تجارة اللبان إلى هجوم البرتغال وهي محط معارك وأحداث تاريخية كان لها الأثر الكبير في تاريخ عمان، وكذا مناطق أخرى أهداها التاريخ حكاية تنتظر أن يفتحها أهلها ويعرفوا العالم عليها.
راودني شك وأنا أكتب هذه المقال فيما إذا كان نجيب محفوظ أو بهاء طاهر يعملان في وزارة السياحية المصرية، هذه الكلمات هي دعوة لنظرة جديدة إلى السياحية عن طريق الأدب، نستطيع جذب السائح/القارئ بالقصص والروايات، يمكننا تسويق السياحة داخل عُمان وخارجها بالأدب.
إيمان فضل